شـــجــرة الكـون
الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للهِ الأحدي الذات، الفردي الصفات، الذي تقدس وجهه عن الجهات، وقدسه عن المحدثات، وقدمه عن الجهات، ويده عن الحركات، وعينه عن اللحظات، واستواؤه عن الاتصالات، وقدرته عن الهفوات، وإرادته عن الشهوات، الذي لا تعدد لصفاته بتعدد الموصوفات، ولا تختلف إرادته باختلاف المرادات، وكون بكلمة "كن" جميع الكائنات، وأوجد بها جميع الموجودات، فلا موجود إلا مستخرج من كنهها المكنون، ولا مكنون إلا مستخرج من سرِّها المصون، قال الله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }.
وبعد،
فإني نظرت إلى الكون وتكوينه، وإلى المكنون وتدوينه، فرأيت الكون كله شجرة، وأصل نَوْرِها من حبة "كن"، قد لقحت كاف الكنتية بلقاح حبة {نحن خلقناكم}، فانعقد من ذلك البزر ثمرة {إنا كل شيء خلقناه بقدرٍ}، وظهر من هذا غصنان مختلفان أصلهما واحدٌ، وهو الإرادة، وفرعها القدرة، فظهر عن جوهر الكاف معنيان مختلفان كاف الكمالية {اليوم أكملت لكم دينكم}، وكاف الكفرية {فمنهم من آمن ومنهم من كفر}، وظهر جوهر النون؛ نون النكرة ونون المعرفة، فلما أبرزهم من "كن" العدم على حكم مراد القدم رش عليهم من نوره، فأما من أصابه ذلك النور فحدق إلى تمثال {كنتم خير أمة}، واتضح له في شرح نونها {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}.
وأما من أخطأه ذلك النور فطولب بكشف المعنى المقصود من حرف "كن" فإنه غلط في هجائه، وخاب في رجائه، فنظر إلى مثال "كن" فظن أنها كاف كفرية بنون نكرة، فكان من الكافرين، وكان حظ كل مخلوق من كلمة "كن" ما علم من هجاء حروفها، وما شهد من سرائر خفائها، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ذلك النور ضل وغوى ).



Read NowRead Now





DOWNLOAD : PDF / PDF / PDF / PDF


0 comments

Post a Comment